معالم بيداغوجية من السنة النبوية

ذ. محمد ايت العربي- زكورة

مقدمة:


إن التربية بمعناها العام، مع اختلاف التعريفات وتباينها، يمكن تعريفها من منظور الشريعة الإسلامية بأنها كل ما من شأنه السعي إلى إحداث تغيير إيجابي في اعتقادات وسلوكات الفرد والمجتمعات، في اتجاه تحقيق العبودية الحقة للباري عز وجل، والسمو بالكائن الإنساني إلى أعلى مراتب تزكية النفس وإصلاح السلوك، كل ذلك لأجل تهيييء النفس والآخرين لنيل السعادة في الدنيا والآخرة.


ونظرا لأن موضوع التربية هو الإنسان كإنسان، فقد تضاربت تعاريف المهتمين تضاربا كبيرا يعزى إلى التضارب في المرجعيات والأيديولوجيات والمنطلقات والاعتقادات، وكذا إلى التباين الكبير في الأهداف والغايات المتوخاة من فعل التربية. ونتيجة لكل ذلك التباين برزت في الحقل التربوي والتعليمي عدة نظريات حاول أصحابها تحديد بعض المعالم التي على أساسها تقوم نجاعة التربية والتعليم.
ولا يخفى على متتبع منصف بأن نصوص الشريعة الإسلامية قرآنا وسنة، قد سبقت إلى الدعوة إلى كثير من المبادئ والأساليب التربوية التي أضحت الآن من النظريات التي تتسابق المناهج التربوية في جل البلدان المسلمة من أجل الظفر بها ومحاولة استنباتها في حقولها التربوية. إنه ما من إشكال  من حيث المبدإ- في الاستفادة مما وصل إليه الآخرون في شتى الميادين خصوصا ما له ارتباط بالإنسان باعتباره إنسانا، ولا تتعارض مع معتقداتنا وديانتنا. بيد أن مما يؤسَف إليه أعظم الأسف هو ذلك الاستيراد الجزافي والتنزيل الميكانيكي الذي لا يراعي الشروط السوسيوثقافية المحلية.
في هذه الورقة المختصرة، نحاول بحول الله تعالى استقراء بعض نصوص السنة النبوية المطهرة، وذلك من أجل التأكيد على أن كثيرا من المبادئ والمعالم التربوية والبداغوجية التي يتبناها المنهاج التربوي المغربي وغيره، كانت حاضرة بقوة في الخطاب والتعليم النبوي منذ  أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان.


أولا. معالم البيداغوجيا الفارقية:


إن علماء التربية الحديثة يقصدون بالبيداغوجيا الفارقية كون التعليم الناجح ينبغي أن يكون قائما على مراعاة اختلاف قدرات وحاجات المتعلمين كل على حده، وكذا استحضار اختلاف وتيرة التعلم من فرد إلى آخر، حتى إن الفرنسي فيليب ميريو تجدث عما سماه "بيداغوجيا النادل"؛ بمعنى أن المعلم/المدرس/المربي عليه مراعاة الاستجابة للحاجات الفردية لكل المخاطَبين لكي يكون ذلك التعليم عادلا لا يشعُر معه أي فرد بالإقصاء.  لكن من تتبع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سيجد ما يدل على هذا المبدإ التربوي ما تَقرُّ به عينُه:


فعن أبي عمرو وقيل أبي عمرة سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه، قال:( قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك. قال:<< قل آمنت بالله ثم استقم>> .


وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي ﷺ أوصني، قال << لا تغضب>> فردد مرارا قال<< لا تغضب >> .


ففي هذين الحديثين – و غيرهما كثير- طلب كل من الرجلين الوصية من رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ فاختار لكل من السائلين ما يناسب حالته ويُصلِح أمره، وذلك انطلاقا من الحاجة الفردية لكل منهما. يقول الشيخ ابن العثيمين رحمه الله:( كل إنسان يُخاطَب بما يقتضيه حالُه، فكأن النببي صلى الله عليه وسلم عرف من هذا الرجل أنه غضوب فأوصاه بذلك(...) رجل أتى إليك وقال أوصني، وأنت تعرف أن هذا الرجل يصاحب الأشرار، فيصح أن تقول: أوصيك ألا تصاحب الأشرار، لأن المقام يقتضيه) .
ثانيا. بناء التعلمات على التمثلات.    

                                                               
 من أهم المبادئ التي يتأسس عليها التعليم الناجع والمثمر، الانطلاق من تمثلات المتعلمين و مكتسباتهم السابقة مما يعطي التعلمات معنى وظيفيا لديهم؛ لأن ذلك يجعلهم فاعلين متفاعلين ومسهمين بشكل أو بآخر في بناء التعلم. و الأمثلة على هذا المبدأ التربوي من السنة النبوية أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تنكر. و هذه بعضها.


عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول ﷺ: "أتدرون من المفلس؟" قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال:" إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا و ضرب هذا فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار". 


ففي هذا الحديث الجليل– وأمثاله كثيرة جدا- يتجلى انطلاق الرسول عليه الصلاة والسلام من تمثلات الصحابة ومكتسباتهم السابقة، فأجابوا بما يعرفونه عن معنى الإفلاس في عرفهم المعيش، ثم بنى عليه الصلاة والسلام على سابق معرفتهم لكي يعلمهم المعنى الجديد الذي يقصد إليه. 


ثالثا. معرفة المتعلم والتدرج في تعليمه.


من الشروط التربوية لنجاعة التربية والتعليم، تبَني مبدإ التدرج وفقه الأولويات؛ إذ لا فائدة من تعلم الشيء مع الجهل بما هو أولى منه، و يسبق ذلك كله التعرف على المخاطَب. ومما يدل على اعتبار هذا المبدإ في تعليم الرسول عليه الصلاة والسلام وتربيته لصاحبته الكرام وللأمة من خلالهم؛ حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله عليه الصلاة والسلام لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: << إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب فادعُهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افْتَرَضَ عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب>> .


فتدبر كيف استهل عليه الصلاة والسلام وصيته لمعاذ رضي الله عنه بقوله<< إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب>>، و يفهم منه أن قد تكون لديهم بعض المعلومات(مكتسبات سابقة) حول ما تعلموه من دينهم، مما يجعل معاذا متأهبا لدحض بعض الشبه أو إزالة الإشكالات. ثم بعد ذلك أمره بأن يعرض عليهم الشهادتين ليكونوا معنيين بخطاب التكليف أولا، وبعدها يأمرهم بالصلاة والزكاة. و يدل مفهوم الشرط(فإن هم أطاعوا لذلك) بأنهم إن لم يطيعوا في النطق بالشهادتين فلا يدعوهم إلى بقية التكاليف الأخرى.
قال ابن العثيمين:( فيه مسائل(...) الحادية عشرة: التنبيه على التعليم بالتدرج. الثانية عشرة: البداءة بالأهم فالأهم) .


رابعا. إثارة الدافعية للتعلم:


يعرف التربويون الدافعية للتعلم(learning motivation ) بكونها تلك الحالة الداخلية لدى المتعلم تدفعه إلى الانتباه للموقف التعليمي والقيام بنشاط موجه، والاستمرار في هذا النشاط حتى يتحقق هدف التعلم. و لاشك أن إيجاد الحاجة لدى المخاطب في التعلم مما يجعل ذلك التعليم أكثر نجاعة وتأثيرا لأنه بذلك يشعر المتعلم بأنه معني فعلا بما يقال و يدرس.


وهذا المبدإ التربوي- هو الآخر- كان حاضرا بقوة في كثير من المناسبات في الخطاب النبوي؛ حيث يحرص عليه الصلاة والسلام قبل البدء في التعليم، على حشد اهتمام من معه من الصحابة رضي الله عنهم وإثارة الدافعية لديهم حول موضوع التعلم.
فالسنة المطهرة زاخرة جدا بأحاديث تستهل بقوله عليه الصلاة والسلام: ( ألا أخبركم؟ ألا أدلكم؟...).


و ما ذلك إلا لإدماج المتعلم و إقحامه في سيرورة العملية التربوية(الشفوية)، وجعله متفاعلا مع كل مراحلها. بل إنه حمله على طرح السؤال لأكبر العوامل على إيجاد تلك الدافعية لديه.


خامسا. الاستثمار الإيجابي للخطأ.


 إذا كان الخطأ من طبيعة بني آدم كما قال النبي ﷺ:<< كل بني خطاء وخير الخطائين التوابون>> ، وإذا كان المنظرون التربويون يرون بأن الخطأ إنما هو مرحلة طبيعية ضمن سيرورة البناء المعرفي، و ذلك باعتباره حالة ذهنية أو فعلا ذهنيا يعتبر  صائبا ما هو خاطئ أو العكس ، فإن من المؤشرات الدالة على نجاحة المعلم(ة) /المربي(ة) هو حسن استثماره الإيجابي للأخطاء الصادرة عن المتعلم(ة)، وهو الذي ما أخطأ- غالبا- إلا لأنه تكلم وتفاعل، وما تفاعل إلا لأنه مهتم ومتابع للدرس. إن الخطأ بهذا المعنى هو حلقة ضرورية ضمن سلسلة التعلم.


ولقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى والقدح المعلى في هذا الشأن؛ و ما ذلك إلا انطلاقا من حرصه الأكيد على تعليم الصحابة و من خلالهم الأمة جمعاء كلَّ ما ينفعهم في العاجلة والآخرة، و نذكر ، على سبيل التمثيل لا الحصر ما يلي:


حديث أنس رضي الله عنه: أن أعرابيا بال في المسجد، فقام إليه بعض القوم ، فقال رسول الله ﷺ: دعوه ولا تزرموه. قال: فلما فرغ دعا بدلو من ماء، فصبه عليه. وفي رواية: أن أعرابيا قام إلى ناحية في المسجد فبال فيها، فصاح به الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه. فلما فرغ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذنوب، فصُبّ على بوله .


قال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى معلقا على هذا الحديث:(  فإذا زجره مع جهله الذي ظهر منه ، قد يؤدي إلى تنجيس مكان آخر من المسجد بترشيش البول، بخلاف ما إذا ترك حتى يفرغ من البول، فإن الرشاش لا ينتشر، وفي هذا إبانة عن حسن أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم ولطفه ورفقه بالجاهل...) .


وقال الفاكهاني رحمه الله:( و فيه الرفق بالجاهل وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف ولا إيذاء) .


وفي الحديث الآخر الذي أخرجه الإمام مسلم وغيره من حديث معاوية بن الحكم السُلَمي رضي الله عنه: قال:  بينما كنت أصلي مع رسول الله -صلى الله عليه و آله وسلم- إذ عطس رجلٌ من القوم، فقلتُ: له يرحمك الله، فنظروا إلي فقلتُ: ما لكم تنظرون إلي؟ قال: فجعلوا يضرِبون أفخاذهم بأيديهم يصمتونني لكني سكت، قال: فلما قضى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- صلاتَهُ بأبي هو وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسنَ تعليمًا منه فوالله ما كهرني ولا سبني ولا ضربني ولكن قال: إن هذه الصلاة لا يصلحُ فيها من كلام الناس شيء إنما هي التكبيرُ والذكرُ وقراءة القرآن أو قال والتسبيح وقراءة القرآن>> .
فمن تدبر هذين الحديثين- وغيرهما كثير جدا- تبين له بجلاء كيف كان منهج الرسول عليه الصلاة والسلام في التعامل مع الخطأ وكيف كان يستثمره في تعليم الناس الصوابَ من دينهم؛ ففي حديث أنس رضي الله عنه أن الأعرابي جاء لينجس أطهر الأماكن في الأرض ألا وهي بيوت الله، وفي حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه أنه تكلم في الصلاة وهي الركن العملي الأول بعد الشهادتين، ومع ذلك كله قوَّم النبي عليه الصلاة والسلام الخطأ بكل رحمة وكل إنسانية بعيدا عن التعنيف والزجر.
سادسا. التعليم بالحركات ( لغة الجسد).


لقد كثر الحديث في أيامنا هذه عن تقنيات التواصل وعلى الخصوص عن لغة الجسد. و لا تخفى أهمية تعلم تلك التقنيات ومحاولة اعتمادها في التواصل الإيجابي مع الآخرين. غير أنه من الجدير التنبيه على ضرورة تبني الوسطية -التي جاءت بها الشريعة الإسلامية ضمن مقاصدها العظيمة- في استعمال لغة الجسد؛ فكما أنه ليس من المستحسن الجلوس إلى متكلم جامد كالمومياء لا يكاد يتحرك منه سوى شفتيه وجفنيه، فمن غير المقبول أيضا الجلوس إلى متحدث لا يكاد يستقر عضو من جسمه مكانه كـأنه مهرج أو بهلوان.


وقد حرص رسولنا عليه الصلاة والسلام- منذ أكثر من أربعة عشر قرنا- أشد الحرص على التوظيف الفعال والهادف والمعتدل للغة الجسد في مقامات التعليم والتربية؛ فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ))، ثلاثاً ـ قلنا : بلى يا رسول الله. قال: (( الإشراك بالله، وعقوق الوالدين )) وكان متكئاً فجلس فقال: (( ألا وقول الزور وشهادة الزور )) فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت .


و عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : ((أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا))، وأشار بالسبَّابة والوسطى، وفرَّج بينهما شيئًا>> .
فمن نظر بعيني قلبه إلى الحديثين المذكورين، تبين له كيف أن الصحابيين الجليلين حرصا على نقل الحركة المرافقة لخطابه عليه الصلاة والسلام؛ مما يؤكد على الأثر النفسي لها.


على سبيل الختم:
لقد كان المقصود من هذه الورقة المختصرة مجرد التمثيل لبعض المعالم التربوية والبيداغوجية التي تزخر بها سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو المربي الذي كلفه ربه تعالى بتربية الناس أجمعين. و لو رغبنا في استقصاء كل المعالم وأدلتها ربما احتاج الأمر إلى مجلد ذي حجم كبير. و كما سبق معنا فلا حرج في الاستفادة مما وصلت إليه البشرية في شتى المجالات، لكن مع الحرص على عدم التماهي مع كل ما يناقض معتقداتنا وخصوصيات هويتنا، إضافة إلى عدم التسليم الكلي لكل ما يَرِد إلينا دون غربلة أو تصفية.


 ولا أنسى أن أذكر أخيرا بأنني لا أقصد مما سطرته هنا إلى استجداء أو تسوُّل تزكيةٍ للمعصوم عليه الصلاة والسلام؛ إذ هو غني بتزكية ربه تعالى له عن تزكية من سواه. و لكن أردت- مستعيرا بعض المفاهيم التربوية الحديثة- التنبيه على بعض المعالم الدالة على سمو المنهج التربوي النبوي ورقيه.
تربية بريس
تربية بريس
تعليقات