مقدمة:
يعتبر الحقل التربوي بالمغرب، على غرار كثير من البلدان، مجالا لمحاولات كثيرة لاستنبات العديد من النظريات التربوية المستوردة من سياقات سوسيوثقافية أخرى تمتح من حضارات شتى وخلفيات متباينة، وتظل في كثير من جوانبها بعيدة عن واقع الممارسة التربوية ببلادنا. هذا الأمر، الذي يمكن إرجاعه إما إلى منطق الكونية أو عقدة التبعية، أو ربما لقاعدة الولع بالغالب1 ، خلق لدى المدرس كثيرا من التذمر، تدل كثير من المؤشرات على تزايده، وذلك انطلاقا من أنه الجندي الممارس في الساحة.
إن مما يثير انتباه المتتبعين للشأن التربوي ببلادنا(المغرب)، هو ذلك الخطاب الملغوم الذي أضحى يطبع لغة الخطاب بين مختلف الأقطاب المتدخلة في الميدان؛ فبينما تقرأ في لغة الوزارة الوصية مؤشرات تستبطن اتهام المدرس بالتقاعس عن مسايرة الإصلاحات المارثونية التي تطلقها، وبكونه سدا مانعا أمام تفعيل نوايا الإصلاح، يستوقفك التذمر الذي أضحى العنوان البارز لخطاب هيأة التدريس والنقابات الجادة. هذا الشعور المؤثر لدى المدرس(ة) يمكن إرجاعه إلى البون الشاسع والمفارقات الصارخة التي يكتشفها كلما حاول المقارنة بين لغة التنظير و الواقع التربوي المعيش.
فما هي بعض مظاهر هذا التباين الكبير بين خطاب التنظير الرسمي وبين الواقع المدرسي أو الفصلي الذي يمارس فيه؟؟؟
أولا. الإصلاح البيداغوجي بين التنظير والممارسة.
من البيداغوجيات التي تبني المنهاج الدراسي المغربي، البيداغوجيا الفارقية التي تؤكد على أخذ الفروق الفردية بعين الاعتبار أثناء العملية التعليمية التعلمية، فلا تكاد تجد اثنين متماثلين في كل شيء لأن المتعلمين متباينون على كل الأصعدة ؛سواء في الخلفيات الاجتماعية أم وتيرة التعلم، أم الاستعداد السيكولوجي وغير ذلك... مما يفرض توفير تعليم عادل يراعي حق الجميع في التعلم. حتى إن الفرنسيي فيليب ميريو سمى هذه البيداغوجيا " بيداغوجيا النادل" .
إن كل منصف يقرأ مضمون هذه الرؤية البيداغوجية لا يملك إلا أن يصفق إقرارا وتثمينا لها، لكن المدرس المغربي، لاحتكاكه اليومي بالواقع التربوي، يجد نفسه عاجزا في أحيان كثيرة عن أجرأة الكثير من بنودها، وذلك لما يواجهه من إكراهات ميدانية، نذكر منها على سبيل التمثيل: الاكتظاظ، قلة أو غياب الوسائل التعليمية، هاجس الوقت المخصص لكل حصة، هاجس الامتحان الإشهادي و مسارعة الزمان لإنهاء المقرر...
كل هذه الإكراهات وغيرها تجعل المدرس، إن كان إيجابيا ومهتما، يكتفي بالاطلاع على مثل هذه النظريات البيداغوجية ومضامينها، لا لشيء إلا استعدادا للامتحان المهني، أو من باب الثقافة المهنية ليس إلا. وفي أسوإ الأحوال قد يجعل ذلك بعض المدرسين- وكثير ما هم- زاهدين أشد ما يكون الزهد في كل تلك التنظيرات نظرا لما يراه من استحالة تنزيلها في واقع تربوي قد يشكو من أبسط ظروف التعليم والتعلم، خصوصا و أن البعض لا زال يتأبط بعض "الوصايا" التي شُيع بها وهو يغادر مركز التكوين،
ثانيا. مواد دراسية بين بين الإلحاح النظري وصعوبة التنزيل.
لقد ركزت جل الوثائق التي تؤطر حقل التربية والتكوين ببلادنا على حق المتعلم تربية رياضية ناجعة، و لا تسل عن عدد المذكرات التي تتقاطر على مؤسسات التربية والتكوين في هذا الصدد. بيد أن الواقع التربوي يكشف عن الغياب شبه الكلي للملاعب والفضاءات المناسبة لممارسة حصة التربية البدنية. وهنا يجد المدرس(ة) نفسه أمام أمر لا ثالث لهما؛ إما المجازفة بتدريس حصة التربية البدنية في فضاء خارج عن أسوار المؤسسة في غياب كلي لحماية نفسه وللمتعلمين، و إما أن يضرب صفحا عن هذه الحصة وتبقى حبرا على استعمال الزمان الذي يوقع عليه السيدان المدير والمشرف التربوي.
ما يقال عن مادة التربية البدنية يمكن إسقاطه على حصص اللغة الأمازيغية مع الفرق، فإن إدراج
أكثر من حصة في استعمالات الزمن، انسجاما مع رهانات الإصلاح، أو استجابة للموجة الصاعدة شيء يفهم ويمكن تبريره، لك نكيف يمكن تفعيل تلك الحصص في غياب شبه كلي لتكوين متين يليق بالأمازيغية لغة رسمية للمملكة إلى جانب اللغة العربية؟ إن مثل هذه الازدواجية بين التنظير و عدم توفير شروط التفعيل، يجعل المدرس(ة) المغربي(ة) يرسل التهم، بل وقد يفتح له المجال في التشكيك في الإرادة الحقيقية للتفعيل.
ثالثا. التكوين الذاتي بين التحفيز النظري والمنع المجحف.
يظل التكوين المستمر من الشروط التي لا يختلف اثنان منصفان على أهميتها البالغة في تحقيق سيرورة إصلاحية مبنية على التراكم الإيجابي، فمن الخطوات الرئيسية الأولى- في نظرنا- لنجاعة أي إصلاح تربوي؛ توفر القابلية والاستعداد النفسي الحقيقي ،لدى هيأة التدريس خصوصا، وسائر الأقطاب المتدخلة في الميدان التربوي على وجه العموم، لتبني الإصلاح والسعي إلى مسايرة المستجدات اليومية في هذا الميدان الحيوي. ولا تخفى الأولوية التي أولاها الميثاق الوطني للتربية والتكوين ، وبعده المخطط الاستعجالي وغيرهما من الوثائق الرسمية لهاجس التكوين المستمر والبحث العلمي.
إلا أن إقبال الوزارة الوصية في الآونة الأخيرة على إغلاق الباب أمام المدرس لمتابعة دراساته الجامعية، يجعل كل التنظيرات السابقة محط سؤال من جديد، بل ويجعل التركيز النظري على التكوين المستمر والبحث العلمي محط نقاش وتوجس.
إن تذرع الوزارة الوصية بضياع حق المتعلم في التمدرس، وإهدار الزمان المدرسي، يظل عذرا يقنع المتتبعين للشأن التربوي بأن الوزارة قد ركبت أصغر الجياد، واختارت أسهل الحلول. لأن السؤال الملح هو: ألا يمكن اعتبار مثل هذه القرارات المجحفة مؤشرا دالا على العجز عن معالجة الأمر ؟ أو ليس بإمكان الوزارة استثمار وتفعيل آلياتها الإدارية والقانونية لضمان تعويض الساعات التي تضيع بسبب متابعة الدراسات الجامعية؟
يقول الدكتور محمد الدريج في سياق كلامه عب بعض مظاهر الأزمة والتخبط في المنظومة التربوية ببلادنا:( ... نضيف إلى ذلك القرارَ المجحف في حق الشغيلة التعليمية بحرمانهم من حقوقهم المشروعة في متابعة دراساتهم العليا وتنمية قدراتهم وتطوير ملكاتهم وترقيتهم وتحسين وضعيتهم المادية والمعنوية... أليس من العبث أن نمنع المدرس من أن يدرس ويحصل هو نفسُه)2 .
ويبقى السؤال عالقا: أمام الغياب شبه الكلي لتكوين مستمر ممنهج مؤسساتيا، وأمام إغلاق باب التكوين المستمر الذاتي عبر متابعة الدراسات الجامعية، فعن أي تكوين مستمر وهادف نتحدث؟
وهكذا يظل المدرس تائها بين عذوبة الخطاب النظري وعذاب الإجحاف الذي يطاله باسم مصلحة المتعلم.
خاتمة:
إن ما ذكرناه أعلاه يبقى مجرد أمثلة قصدنا إثارة الانتباه إليها في هذه العجالة، وإلا فمن تتبع مظاهر التناقض بين الخطاب التربوي والواقع المدرسي ربما يجد ما يصلح مجلدا. ليظل الحل الذي لابد من التفكير فيه بالجدية الكافية إما محاولة إضفاء الواقعية على الخطاب الإصلاحي التربوي، وإما توفير الشروط اللازمة لتنزيل النظريات التي نبتت أول مرة في بيئات سوسيوثقافية وتربوية أخرى.
-------------
ابن خلدون. المقدمة.
2. محمد الدريج. المنهاج المندمج، أطروحات في الإصلاح البيداغوجي لمنظومة التربية والتكوين. منشورات مجلة علوم التربية. مطبعة النجاح الجديدة. المغرب. الطبعة الأولى 1436هـ/ 2015م.ص 4.
ذ. محمد ايت العربي نيابة زاكورة
يعتبر الحقل التربوي بالمغرب، على غرار كثير من البلدان، مجالا لمحاولات كثيرة لاستنبات العديد من النظريات التربوية المستوردة من سياقات سوسيوثقافية أخرى تمتح من حضارات شتى وخلفيات متباينة، وتظل في كثير من جوانبها بعيدة عن واقع الممارسة التربوية ببلادنا. هذا الأمر، الذي يمكن إرجاعه إما إلى منطق الكونية أو عقدة التبعية، أو ربما لقاعدة الولع بالغالب1 ، خلق لدى المدرس كثيرا من التذمر، تدل كثير من المؤشرات على تزايده، وذلك انطلاقا من أنه الجندي الممارس في الساحة.
إن مما يثير انتباه المتتبعين للشأن التربوي ببلادنا(المغرب)، هو ذلك الخطاب الملغوم الذي أضحى يطبع لغة الخطاب بين مختلف الأقطاب المتدخلة في الميدان؛ فبينما تقرأ في لغة الوزارة الوصية مؤشرات تستبطن اتهام المدرس بالتقاعس عن مسايرة الإصلاحات المارثونية التي تطلقها، وبكونه سدا مانعا أمام تفعيل نوايا الإصلاح، يستوقفك التذمر الذي أضحى العنوان البارز لخطاب هيأة التدريس والنقابات الجادة. هذا الشعور المؤثر لدى المدرس(ة) يمكن إرجاعه إلى البون الشاسع والمفارقات الصارخة التي يكتشفها كلما حاول المقارنة بين لغة التنظير و الواقع التربوي المعيش.
فما هي بعض مظاهر هذا التباين الكبير بين خطاب التنظير الرسمي وبين الواقع المدرسي أو الفصلي الذي يمارس فيه؟؟؟
أولا. الإصلاح البيداغوجي بين التنظير والممارسة.
من البيداغوجيات التي تبني المنهاج الدراسي المغربي، البيداغوجيا الفارقية التي تؤكد على أخذ الفروق الفردية بعين الاعتبار أثناء العملية التعليمية التعلمية، فلا تكاد تجد اثنين متماثلين في كل شيء لأن المتعلمين متباينون على كل الأصعدة ؛سواء في الخلفيات الاجتماعية أم وتيرة التعلم، أم الاستعداد السيكولوجي وغير ذلك... مما يفرض توفير تعليم عادل يراعي حق الجميع في التعلم. حتى إن الفرنسيي فيليب ميريو سمى هذه البيداغوجيا " بيداغوجيا النادل" .
إن كل منصف يقرأ مضمون هذه الرؤية البيداغوجية لا يملك إلا أن يصفق إقرارا وتثمينا لها، لكن المدرس المغربي، لاحتكاكه اليومي بالواقع التربوي، يجد نفسه عاجزا في أحيان كثيرة عن أجرأة الكثير من بنودها، وذلك لما يواجهه من إكراهات ميدانية، نذكر منها على سبيل التمثيل: الاكتظاظ، قلة أو غياب الوسائل التعليمية، هاجس الوقت المخصص لكل حصة، هاجس الامتحان الإشهادي و مسارعة الزمان لإنهاء المقرر...
كل هذه الإكراهات وغيرها تجعل المدرس، إن كان إيجابيا ومهتما، يكتفي بالاطلاع على مثل هذه النظريات البيداغوجية ومضامينها، لا لشيء إلا استعدادا للامتحان المهني، أو من باب الثقافة المهنية ليس إلا. وفي أسوإ الأحوال قد يجعل ذلك بعض المدرسين- وكثير ما هم- زاهدين أشد ما يكون الزهد في كل تلك التنظيرات نظرا لما يراه من استحالة تنزيلها في واقع تربوي قد يشكو من أبسط ظروف التعليم والتعلم، خصوصا و أن البعض لا زال يتأبط بعض "الوصايا" التي شُيع بها وهو يغادر مركز التكوين،
ثانيا. مواد دراسية بين بين الإلحاح النظري وصعوبة التنزيل.
لقد ركزت جل الوثائق التي تؤطر حقل التربية والتكوين ببلادنا على حق المتعلم تربية رياضية ناجعة، و لا تسل عن عدد المذكرات التي تتقاطر على مؤسسات التربية والتكوين في هذا الصدد. بيد أن الواقع التربوي يكشف عن الغياب شبه الكلي للملاعب والفضاءات المناسبة لممارسة حصة التربية البدنية. وهنا يجد المدرس(ة) نفسه أمام أمر لا ثالث لهما؛ إما المجازفة بتدريس حصة التربية البدنية في فضاء خارج عن أسوار المؤسسة في غياب كلي لحماية نفسه وللمتعلمين، و إما أن يضرب صفحا عن هذه الحصة وتبقى حبرا على استعمال الزمان الذي يوقع عليه السيدان المدير والمشرف التربوي.
ما يقال عن مادة التربية البدنية يمكن إسقاطه على حصص اللغة الأمازيغية مع الفرق، فإن إدراج
أكثر من حصة في استعمالات الزمن، انسجاما مع رهانات الإصلاح، أو استجابة للموجة الصاعدة شيء يفهم ويمكن تبريره، لك نكيف يمكن تفعيل تلك الحصص في غياب شبه كلي لتكوين متين يليق بالأمازيغية لغة رسمية للمملكة إلى جانب اللغة العربية؟ إن مثل هذه الازدواجية بين التنظير و عدم توفير شروط التفعيل، يجعل المدرس(ة) المغربي(ة) يرسل التهم، بل وقد يفتح له المجال في التشكيك في الإرادة الحقيقية للتفعيل.
ثالثا. التكوين الذاتي بين التحفيز النظري والمنع المجحف.
يظل التكوين المستمر من الشروط التي لا يختلف اثنان منصفان على أهميتها البالغة في تحقيق سيرورة إصلاحية مبنية على التراكم الإيجابي، فمن الخطوات الرئيسية الأولى- في نظرنا- لنجاعة أي إصلاح تربوي؛ توفر القابلية والاستعداد النفسي الحقيقي ،لدى هيأة التدريس خصوصا، وسائر الأقطاب المتدخلة في الميدان التربوي على وجه العموم، لتبني الإصلاح والسعي إلى مسايرة المستجدات اليومية في هذا الميدان الحيوي. ولا تخفى الأولوية التي أولاها الميثاق الوطني للتربية والتكوين ، وبعده المخطط الاستعجالي وغيرهما من الوثائق الرسمية لهاجس التكوين المستمر والبحث العلمي.
إلا أن إقبال الوزارة الوصية في الآونة الأخيرة على إغلاق الباب أمام المدرس لمتابعة دراساته الجامعية، يجعل كل التنظيرات السابقة محط سؤال من جديد، بل ويجعل التركيز النظري على التكوين المستمر والبحث العلمي محط نقاش وتوجس.
إن تذرع الوزارة الوصية بضياع حق المتعلم في التمدرس، وإهدار الزمان المدرسي، يظل عذرا يقنع المتتبعين للشأن التربوي بأن الوزارة قد ركبت أصغر الجياد، واختارت أسهل الحلول. لأن السؤال الملح هو: ألا يمكن اعتبار مثل هذه القرارات المجحفة مؤشرا دالا على العجز عن معالجة الأمر ؟ أو ليس بإمكان الوزارة استثمار وتفعيل آلياتها الإدارية والقانونية لضمان تعويض الساعات التي تضيع بسبب متابعة الدراسات الجامعية؟
يقول الدكتور محمد الدريج في سياق كلامه عب بعض مظاهر الأزمة والتخبط في المنظومة التربوية ببلادنا:( ... نضيف إلى ذلك القرارَ المجحف في حق الشغيلة التعليمية بحرمانهم من حقوقهم المشروعة في متابعة دراساتهم العليا وتنمية قدراتهم وتطوير ملكاتهم وترقيتهم وتحسين وضعيتهم المادية والمعنوية... أليس من العبث أن نمنع المدرس من أن يدرس ويحصل هو نفسُه)2 .
ويبقى السؤال عالقا: أمام الغياب شبه الكلي لتكوين مستمر ممنهج مؤسساتيا، وأمام إغلاق باب التكوين المستمر الذاتي عبر متابعة الدراسات الجامعية، فعن أي تكوين مستمر وهادف نتحدث؟
وهكذا يظل المدرس تائها بين عذوبة الخطاب النظري وعذاب الإجحاف الذي يطاله باسم مصلحة المتعلم.
خاتمة:
إن ما ذكرناه أعلاه يبقى مجرد أمثلة قصدنا إثارة الانتباه إليها في هذه العجالة، وإلا فمن تتبع مظاهر التناقض بين الخطاب التربوي والواقع المدرسي ربما يجد ما يصلح مجلدا. ليظل الحل الذي لابد من التفكير فيه بالجدية الكافية إما محاولة إضفاء الواقعية على الخطاب الإصلاحي التربوي، وإما توفير الشروط اللازمة لتنزيل النظريات التي نبتت أول مرة في بيئات سوسيوثقافية وتربوية أخرى.
-------------
ابن خلدون. المقدمة.
2. محمد الدريج. المنهاج المندمج، أطروحات في الإصلاح البيداغوجي لمنظومة التربية والتكوين. منشورات مجلة علوم التربية. مطبعة النجاح الجديدة. المغرب. الطبعة الأولى 1436هـ/ 2015م.ص 4.
ذ. محمد ايت العربي نيابة زاكورة