المقاربة بالكفايات تدق أبواب المدارس من جديد

بموازاة المشروع الإصلاحي المنتظر للمنظومة التربوية، والذي يعني جملة من المشاريع التي ستعيد للمدرسة المغربية عافيتها كما هو الشأن مع التعلمات الأساسية، وتدريس اللغات، ومحاربة الهدر المدرسي، يسعى الإصلاح لوضع مقاربة بيداغوجية توافق المدرسة المغربية بعد أن توقف مشروع بيداغوحية الكفايات، التي حملها المخطط الاستعجالي لإصلاح التعليم. والتي يبدو أنها تطرق أبواب المدرسة من جديد. وهي البيداغوجية التي جاءت على حساب بيداغوجية التدريس بالأهداف.

حينما قال محمد الوفا، وهو وقتها وزير للتربية الوطنية، إنه طرد الخبير البلجيكي «غسافي» بعد أن اكتشف أن مشروعه التربوي لم يحقق ما كان منتظرا منه، دخلت المدرسة المغربية في فترة فراغ مهول على مستوى المقاربة التربوية التي يجب أن تنهجها. وظل المدرسون والتلاميذ يدبرون هذا الأمر بالكثير من الارتجال. وكان لا بد اليوم، بعد أن دخل الإصلاح التربوي مراحله الأخيرة، أن يعود النقاش مجددا حول دواعي اختيار المقاربة بالكفايات، كما جاء بها المخطط الاستعجالي الذي انطلق في 2009 وكان يفترض أن يخضع للتقييم في 2012 قبل أن يتوقف في منتصف الطريق.

ففي 2004 أنجز أساتذة وحدة البحث في علوم التربية بمركز تكوين المعلمين بالرباط دراسة حاولت الجواب عن سؤال الجدوى من هذه المقاربة التربوية، مقارنة مع سابقاتها. وخلصت الدراسة إلى أن المقاربة بالكفايات مقاربة فعالة في كل ميادين الإنتاج، حيث دخلت المؤسسة التعليمية على أساس أنها ورشة عمل تشبه المقاولة. وقد اعتبر اعتماد مقاربة المناهج بالكفايات، في نظام التربية والتكوين بالمغرب، مرحلة جديدة تفتح الباب لتدارك كثير من السلبيات التي أبان عنها التقدم المطرد في مجال علوم التربية وما حققه من مستجدات. لذلك كان لا بد أن يقدم المخطط ما اعتبره دواعي اعتماد المقاربة بالكفايات في نظام التربية والتكوين بالمغرب كاختيار استراتيجي. وهي دواعي فلسفية سياسية، وأخرى علمية بيداغوجية.

يتحدث الميثاق الوطني للتربية والتكوين، عن العمل على إنجاح المتعلم في الحياة، وتأهيله للتوافق مع محيطه، وذلك في كل فترات ومراحل تربيته وتكوينه، من خلال ضرورة أن يمنح التعليم للأفراد فرصة اكتساب القيم والمعارف والمهارات التي تؤهلهم للاندماج في الحياة العملية، وفرصة مواصلة التعلم، كلما استوفوا الشروط والكفايات المطلوبة. واستيعاب المعارف الأساسية والكفايات التي تنمي استقلالية المتعلم. والتمكن من المفاهيم ومناهج التفكير والتعبير والتواصل والفعل والتكيف، مما يجعل من الناشئة أشخاصا نافعين قادرين على التطور والاستمرارية في التعلم طيلة حياتهم بتلاؤم تام مع محيطهم المحلي والوطني والعالمي. واكتساب مهارات تقنية ورياضية وفنية أساسية، مرتبطة مباشرة بالمحيط الاجتماعي والاقتصادي للمدرسة.

أما الدواعي العلمية البيداغوجية، فترتكز على الارتقاء بالمتعلم بجعله يستند إلى نظام متناغم ومتكامل في المعارف والإنجازات والمهارات المنظمة ضمن وضعيات تعلمية، لتجعله في صلب التعلم. ولن يحدث ذلك إلا في إطار بيداغوجيا فعالة تعتبر» المقاربة بالكفايات» أوضح معبر عنها، وذلك لأنها تحلل الوضعية التعليمية-التعلمية إلى مجموعة من الوضعيات الفرعية، وتبنيها وفق منظور إيجابية المتعلم، بهدف إدماجه كفاعل أساسي في بناء التعلمات، وذلك بترجيح المبادئ البيداغوجية التي تبنى على اعتبار محورية المتعلم، الذي هو هنا فاعل أساسي في بناء المعرفة والتعلمات، مما يدعو إلى استحضار جانب التعلم الذاتي في كل الأنشطة. واعتبارا لهذا المنطق كان لابد من بناء كل المناشط البيداغوجية على فاعلية المتعلم، وذلك بالتركيز على سمات شخصية من قدرات عقلية كالتفكير، والإدراك، والتذكر، والاستدلال. ومميزات وجدانية كالانفعال، والعاطفة. وخاصيات سيكوحركية.

وهذا ما يدعو أيضا إلى استحضار البيداغوجيا الفارقية حين تبني استعمال المقاربة بالكفايات. بالاضافة إلى توفير فضاء للتعلم الذاتي. وهو الذي يكون بفتح المجال رحبا أمام المتعلم لكي يوظف إمكاناته وقدراته للتعلم، ولا يتأتى لـه ذلك، إلا عن طريق بناء وضعيات تعلمية تحفزه على التفاعل مع محيطه تفاعلا إيجابيا وبناء قوامه المساءلة والاستكشاف ارتباطا بقواعد التفكير العلمي.

لكن ذلك لن يتحقق إلا بتوفير الشروط المادية والتربوية للتعلم الذاتي. ويقصد بذلك مختلف الوسائط والطرائق التي تتيح فرص التعلم الذاتي.

لقد تم اختيار المقاربة بالكفايات لأن القواعد التي تعتبر مقوما مميزا للتعلم الفعال، لم تكن حاضرة بالشكل المطلوب، في نموذج التدريس بالأهداف، وذلك لأن هذا النموذج استند إلى أسس اختيارية تجزيئية من أهم مبادئها هندسة الأستاذ للأهداف التعليمية، بعيدا عن اهتمام المتعلم. وتخطيطها في شكل سلوكات قابلة للملاحظة والقياس. والاهتمام بقياس الرجع التعليمي، وعدم الاهتمام بتحقق النمو بكل أبعاده في شخصية المتعلم، وانتقاء واستحضار العدة البيداغوجية وفق ما يراه الأستاذ مناسبا لتحقيق الأهداف التي تم تخطيطها، دون اعتبار لعدة بيداغوجيات مفتوحة، تتيح للمتعلم تنمية شخصيته بكل مكوناتها، مثل ما هو معمول به في المقاربات المعتمدة على حل المشكلات والمشاريع التربوية. وإشراف الأستاذ القبلي على توظيف واستثمار العدة البيداغوجية بشكل يجعل منه الفاعل الأساسي في عملية التعلم والتعليم. وبناء المدرس لمقاييس مسبقة يعتبرها معايير ومؤشرات دالة على حدوث التعلم أو انتفائه. ثم بناء إجراءات قبلية توقعية لدعم نتائج التقويم. وهو ما جعل من المتعلم عنصرا سلبيا ومنفعلا.

واعتبارا لكل هذه الأمور وغيرها، جاءت الانتقادات الموجهة إلى بيداغوجية الأهداف، عنيفة.

وعلى هذا الأساس، جاء مدخل الكفايات اختيارا تربويا استراتيجيا ليجعل من الأستاذ فاعلا يعمل على تكوين القدرات والمهارات، ولا يبقى منحصرا في مد المتعلم بالمعارف والسلوكات الجزئية.

ومن هنا تبين أن المقاربة بالكفايات استراتيجية تعمل على إفساح الفضاء المدرسي وجعله يشجع على التعلم الذاتي. مع ربط التعلم باهتمام التلاميذ وجعله قريبا منهم فيشدون إليه. وتيسير النجاح في توظيف التعلمات لحل المشكلات، وذلك بفضل ما تحققه من كفايات عبر مختلف المواد الدراسية والوحدات التعليمية.

مع إعطاء التعلمات المكتسبة في فضاء المدرسة دلالات حقيقية، والحرص على اعتبار التكامل بين مختلف المواد والوحدات الدراسية في بناء الكفايات، وذلك من خلال التمركز حول المتعلم، واعتباره الفاعل الأساسي في كل نشاط تربوي. وربط أنشطة التعلمات بحاجات المتعلم، وجعل بيئته مصدرا لها. ثم انتقاء التعلمات التي تعتبر أساسا لمتابعة أطوار التربية والتكوين.

والخلاصة أن الإدماج هو قدرة المتعلم على توظيف عدة تعلمات سابقة منفصلة في بناء جديد متكامل وذي معنى. وغالبا ما يتم هذا التعلم الجديد نتيجة التقاطعات التي تحدث بين مختلف المواد والوحدات الدراسية.

مع أحقية المتعلم في الخطأ. والمراد به ألا يعتبر الخطأ في إنجاز المتعلم عملا سلبيا، بل يكون منطلقا للبيداغوجيا العلاجية التي توظف الخطأ، إيجابيا، وتعتبره دليلا وأداة كشف عن آليات التفكير عند المتعلم، وهكذا يتم ضبط الخطأ وتحديد مصدره، ثم علاجه بوعي وتبصر من لدن المتعلم.

إن بناء تعلمات من هذا القبيل يفترض الإلمام بمفهوم «الكفاية» من جهة و»المقاربة بالكفايات» كاستراتيجية من جهة ثانية.

كانت هذه هي الخلفية الفلسفية والبيداغوجية التي بنيت عليها مقاربة الكفايات، والتي اعتبرها المخطط الاستعجالي، الذي جاء به الوزير أحمد اخشيشن، واحدة من مشاريع المخطط في شقه التربوي. لذلك فتحت لهذه البيداغوجية أوراش التكوين التي شملت في منطلقها التعليم الابتدائي ووصلت سنته السادسة، قبل أن يتقرر توقيفها وهي تستعد لولوج التعليم الإعدادي. على الرغم من أن وزارة التربية الوطنية وضعت لها ما يكفي من أدوات كان في مقدمتها تلك الكراسات التي كلفت الملايين، قبل أن يتم التخلي عنها بقرار من الوزير الذي لم يتردد حينما قال إنه جاء للقطاع لكي يلغي جل مشاريعه التي حملها مخطط سلفه.

اليوم، وبعد أن أعيد فتح ملف الإصلاح التربوي سواء من قبل وزير التربية الوطنية رشيد بلمختار، أو من قبل المجلس الأعلى للتعليم والبحث العلمي، كان لا بد أن يعود النقاش حول المقاربة البيداغوجية التي يمكن أن توافق إجراءات الإصلاح المنتظرة. وهي مقاربة الكفايات التي قد تدق غدا أبواب المدرسة المغربية من جديد.


المساء - العدد :2525 - 11/11/2014
تربية بريس
تربية بريس
تعليقات